وزير الأوقاف: الخطاب الديني المفترى عليه
لا ينكر أحد أن الخطاب الديني الصحيح أحد أهم عوامل تحقيق استقرار المجتمعات والإسهام في أمنها وأمانها .
فبالخطاب الديني الصحيح يتحقق العيش السلمي المشترك بين البشر ، وبه تتحقق العدالة والمساواة والحرية المنضبطة لا المنفلتة ، وبه يتحقق الأمن النفسي ، وبه تنضبط علاقات البشر فيما بينهم ، وبه تترسخ القيم الأخلاقية والإنسانية ، من الرحمة ، والتسامح ، والتكافل ، والتعاون ، والصدق ، والوفاء ، والأمانة ، وبه تحفظ الدماء والأعراض والأموال والحرمات ، وبه يتحقق الجمال والنظافة والتحضر والرقي ، وبه تسير عجلة العمل والإنتاج وعمارة الكون في طريقها الصحيح ، فحيث تكون المصلحة فثمة شرع الله ، وتلك الأصول الراسخة أجمعت عليها الشرائع السماوية كلها ، لم تختلف في أي ملة منها ، يقول الحق سبحانه : “قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” ( الأنعام : 151-153) ، حيث يعلق سيدنا عبد الله بن عباس على هذه الآيات بقوله: تلك آيات محكمات أجمعت عليها الشرائع السماوية ، ولم تنسخ في واحدة منها .
وباختطاف المنتفعين من تجار الدين وطلاب السلطة للخطاب الديني ، ومحاولة توظيفه لمصالح حزبية أو شخصية أو طائفية ، حدث التشكيك في نوايا وضمائر الناس ، ثم تكفيرهم ، ثم الاعتداء على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، ورأينا ما لا قبل للبشرية السوية به من قطع رءوس الأطفال والكبار ، وانتهاك أعراض نساء مسلمات وغير مسلمات تحت مسميات ومبررات ما أُنزل بها من سلطان ، والأدهى والأمرّ أن ترتكب هذه المجازر الوحشية والأفعال غير الآدمية ولا السوية ، باسم الدين ، وباسم الإسلام ، وتحت راية القرآن ، والإسلام والقرآن من كل ذلك براء ، ولم نر حمية للدين ولا الوطن ممن كانوا يزعمون أنهم حماة الدين بالأمس عبر بعض الفضائيات ، وكأن ذلك قد وافق هوى لديهم ، لم نجد بيانًا واحدًا يشفي غليلا ، ولا مؤتمرًا حاشدًا يرسل إشارة إيجابية مطمئنة منكرة أو مستنكرة لهذا العبث الذي يحدث باسم الإسلام ، اللهم إلا تلك المحاولات الجادة التي يحاولها فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب شيخ الأزهر ، وتقوم وزارة الأوقاف بتطبيقها على أرض الواقع ، وهي جهود وإن بدت للبعض غير منظورة ، وإن كانت تحتاج مواصلة الليل بالنهار ، فما لا يدرك كله لا يترك كله ، والدعوة كالطفل أو النبات تنمو نموًا غير ملحوظ لكنها في النهاية إن كُتب لها التوفيق تنتج رجلا أو ثمرًا يراه الناس رأي العين ، ويفيدون منه إفادة واضحة ملموسة .
غير أن الخطاب الديني في العقود والسنوات الأخيرة قد صار كلأ مباحًا ونهبا لغير المؤهلين وغير المتخصصين، ومطية للمنتفعين وتجار الدين ، ولم يكن في وسع المؤسسات الرسمية آنذاك أن تتحرك الحركة الكافية لكبح جماح هؤلاء المنتفعين والمتسلقين حتى استفحل الداء وصار عضالا ، وأصبح استئصال الورم الخبيث في جسم الخطاب الديني يحتاج إلى جراحة عاجلة وسريعة على أيدي أمهر الأطباء في جراحة مثل هذه الأورام ، وبدأت محاولات جادة وحاسمة ، غير أن داء آخر قد دخل على الداء الأول فأصبح الداء داءين نتيجة عدم وضع الأمور في نصابها ، وذلك عندما حاول غير المتخصصين في مثل هذه الجراحات الافتراء على المتخصصين فيها ، وأخذ أماكنهم ، ومحاولة النيل منهم ، فتداخلت الأمور لدى بعض الناس وارتبكت ، على أنها – وينبغي أن تكون – أوضح من الشمس في رابعة النهار ، كما أن ذهاب البعض إلى الطرف الآخر من المعادلة وهو طرف التسيب والانحلال ، والخلط السيئ بين مواجهة التطرف والتدين لدى غير المؤهلين لمعالجة قضايا الخطاب الديني قد زاد من إرباك المشهد ، وأمد المتطرفين والمتشددين بحجج ما كان لهم أن يفتنوا بها عقول الشباب لو أن الحكمة والتخصص وعقلانية المعالجة تُركت إلى أهل العلم الحقيقيين .
وفي ذلك أؤكد أن الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف المصرية على الرغم من أنهما يحملان حملا ثقيلا من تركات مضت إلا أنهما هما المؤهلان لقيادة الفكر الوسطي بلا إفراط أو تفريط ، وأستطيع أن أقول وباطمئنان : إنه لا توجد جهة في العالم كله يمكن أن تقوم في مواجهة الإرهاب الفكري ورفع الدعم والغطاء الأدبي والمعنوي عنه ، ونشر سماحة الإسلام داخل مصر وخارجها بمعشار ما يقوم به الأزهر الشريف والأوقاف المصرية في ذلك .